الفكر والتفكير السياسي
مقدمة:
يعتبر التفكير السياسي من أقدم النشاطات الذهنية التي مارسها الإنسان وخاصة الفلاسفة والمفكرين، وكان أول موضوع يشغل بال الإنسان ويفكر فيه بعمق هو كيف يحمي نفسه ويؤمن بقاءه واستقراره ويلبي احتياجاته؟ ثم اخذ يفكر في كيفية السيطرة على محيطه، حتى ينظم حياته ويمد نفوذه ويدير علاقاته مع الاخرين ويؤثر في قناعات من حوله؟ كانت هذه أسئلة السياسة الأولى والتي ما زالت هي نفسها تتردد اليوم في الفكر السياسي .
أصول الفكر السياسي وموضوعاته
لما كان الفكر السياسي من أقدم فروع العلوم السياسي، وأغزها مادة، فإن أصوله عديدة ومتنوعة، وهي متفاوتة من حيث من حيل العمق والتكامل والشمول في التعبير عن الظاهرة السياسية في أشكالها المتعددة وفي دراستها أيضا، وهنا يمكننا حصر هذه الأصول في الآتي:
1- النظريات:
وهي ما وضعهُ كبار الفلاسفة أمثال : (أفلاطون – أرسطو – بولبيوس– شيشرون) خلال دراستهم للظاهرة السياسية بمعناها الواسع .
2- المصادر التاريخية:
وهي تلك التي صاغها كبار المؤرخين أمثال هيرودوت وثيوسديد، حول الصراع والنزاع والسلام بين الحضارات القديمة .
3- الوثائق السياسية والقانونية:
وهي مجموعة المبادئ والمصادر التي تُعبر عن خصائص النظم السياسية ومن أقدمها (شرائع حمورابي) .
4- مصادر الأدب السياسي:
وهي ما يطلق عليه اصطلاحاً (الحكمة السياسية) كملحمة الإلياذة لهوميروس والتي تُعد إحدى أهم مصادر النقد السياسي .
الفكر السياسي في الحضارات القديمة
رغم كون الحضارات الشرقية القديمة ولا سيما اليونانية والرومانية أسبق إلى الوجود من نظيرتها في أوروبا إلا أنّ البعض يرى أنّ الفكر الشرقي القديم رغم ما حواه من نماذج دينية وتاريخية واجتماعية متقدمة لم ينل نفس الاهتمام الذي ناله الفكر الغربي القديم، ويعود ذلك تعمّد الدارسين الغربيين إغفال هذه المرحلة وجهلهم بلغات الشرق القديم .
أولاً: الفكر السياسي في الحضارة المصرية القديمة:
رغم أنّ الحضارة المصرية تعتبر من أقدم الحضارات التي عرفها العالم إلا أنّ التفكير السياسي لم يأخذ لها أبعادا، ذلك أنّ البيئة المصرية تميّزت بالانعزال عما حولها لما يتمتع فيه الملك من طاعة مطلقة و التسلسل الهرمي للسلطة وكذلك فكرة الوطنية التي يعتبر الشعب المصري أول من عرفها .
ثانياً: الفكر السياسي في حضارات ما بين النهرين (العراق):
قدّمت هذه الحضارات للتاريخ الإنساني نماذج متعددة من ألوان التقدم الحضاري والقيم السياسية , فالفكر السياسي لها ومنذ اكتشافه أوائل القرن العشرين منقوشاً على حجر تميّز بارتباط مصادره بالسلطة الحاكمة وأيضاً بمضمونه الاجتماعي .
ثالثاً: الفكر السياسي في الحضارة الفارسية:
إن قيام الفرس بثورة ضدّ حكامهم من المجوس وما ترتب على ذلك من قيام للدولة الفارسية أدى إلى تكوّن هذه الحضارة بعد القرن السادس عشر قبل الميلاد , وتميّز الفكر السياسي الفارسي المتأثر بالتطوّر والتراكم المعرفي لحضارات المدن اليونانية بالتعدد الطبقي لفئات المجتمع وبأنه لم ينشأ داخل السلطة السياسية الحاكمة كما عرف فكرة الدورة السياسية وكان خارج تأثير السلطة الدينية .
رابعاً: الفكر السياسي في الحضارة الصينية:
نشوء الحضارة الصينية في منطقة جغرافية شبه معزولة عن المناطق التي ظهرت فيها الحضارات الأخرى أدى إلى اكتسابها لطابع العزلة قومياً وسياسياً , واتسم الفكر الساسي الصيني بالعلمانية والاكتفاء الذاتي إضافة إلى تقديمه فكرة الثورة القائمة على إرادة الشعب .
خامساً: الفكر السياسي اليوناني:
ظهور ثلة من أبرز مفكري السياسة والاجتماع أمثال أرسطو وأفلاطون وسقراط وغيرهم جعل الحضارة اليونانية تقدم لتراث الفكر السياسي مالم تستطع أية حضارة من الحضارات القديمة الأخرى أن تقدمه عبر التاريخ .
فالسياسة عند سقراط هي أحد فروع السلوك الإنساني الذي يسعى للخير الحقيقي وليس للخيرات الظاهرية هذا القول تجسد في نظرية تلميذهِ أفلاطون التي أصر فيها أن «الفضيلة هي المعرفة» , ويُعتبر أفلاطون الأب المؤسس للفكر السياسي الغربي حيث انشغل بشكلٍ خاص بقضيتي العدالة والفضيلة، ورأى أن وجودهما ضرورة ملحة لمجتمعٍ سليم، لما تمثلانهِ من أمانة في القول والعمل كما يعتبر أن أهم وأول قانون في السياسة «هو أَن يُصبح الحكيمُ صالحاً والحاكمُ حكيمُ» , وسبب نشوء الدولة عنده هو الحاجة الاقتصادية والاجتماعية كون الفرد لا يستطيع تحقيق الحياة الفاضلة في إطار الأسرة أو القبيلة بل ضمن «المدينة الدولة». بينما أرسطو وهو أعظم فيلسوف وعالم في العهد القديم و الذي أنشأ دراسة المنطق , يعتبر الدولة كظاهرة سياسية هي حالة تخص الإنسان دون سواه , وهي كاجتماع سياسي فوق كل الاجتماعات وتتميز عنها بالاكتفاء الذاتي وأن الدولة كتنظيم قانوني يعد فيها العدل ضرورة اجتماعية لإقامة الحق .
الفكر السياسي في العصور الوسطى والحديثة:
بدأت هذه العصور بانهيار الإمبراطورية الرومانية الغربية واستمرّت حتى عصر النهضة الاستكشاف وفيها برز العديد من المفكرين والفلاسفة كالقديس أوغستين الذي عبّر عن معظم أفكاره في مجلده الضخم الذي أسماه “مدينة الله” , والقديس توما الإكويني الذي حاول الجمع بين النظرية السياسية القديمة وبين التيارات المسيحية التي تستمد أصولها من الإنجيل.
أما عن الفكر السياسي في العصور الحديثة: فيها شكلت التحوّلات التي أصابت المجتمع الأوروبي نقطة انطلاق الفكر السياسي الحديث (يعتبر نيقولا ميكيافيللي الأب الروحي لفكر عصر النهضة من ناحية فهم ممارسة السلطة ) وتتمثل هذه التحولات بالتالي :
- القضاء على فكرة ازدواجية السلطة.
- ظهور الدول القومية واضمحلال النظام السياسي الإقطاعي.
- ظهور الحركات التحررية وتبلور مبدأ السيادة.
- التقدم التكنولوجي وتطور وسائل البحث العلمي.
المُفكر السياسي:
بالعودة إلى المؤلفات الكلاسيكية نرى أن المفكر السياسي هو أكثر أهمية من الفكر السياسي نفسه، فهو الذي ينتج هذا الفكر، وهو وحده الذي يملك المعرفة والخبرة والمؤهلات والتقنيات البحثية الضرورية التي تؤهله لتفكيك الواقع وإعادة تركيبه وبلورة صورة متكاملة له في سياقه التاريخي والانساني الشامل , وذلك من خلال الخطوات التي يتبعها هذا المفكر والتساؤلات التي يطرحها .
في النهاية يعتبر التفكير السياسي من أقدم النشاطات الذهنية التي مارسها الإنسان وخاصة الفلاسفة والمفكرين، ومازالت أسئلة السياسة الأولى (الأمن – تلبية الاحتياجات – توسيع النفوذ) هي نفسها تتردد اليوم في الفكر السياسي