الجغرافيا السياسية

مقدمة:

يشير مفهوم الجغرافيا السياسيّة إلى دراسة الظواهر الموجودة فوق سطح الأرض من وحدات وأقاليم سياسيّة، وما تمتلكه من مقومات لاستمرار وجودها، وما يؤثّر على تطوّرها من حيث الخصائص الجغرافيّة والسياسيّة في آن واحد , ولا يقتصرّ التعريف على مدى تأثير الجغرافيا على السياسة فقط، بل يتعدى ذلك ليُبرز الأثر المترتب لكلّ منهما على الآخر كإقامة وشق قناة السويس الذي جاء بناءً على قرار سياسيّ بحت .

ميدان الجغرافيا السياسية

إن الجغرافيا السياسية تتميز عن الجغرافيا بشقها البشري، كون الأخيرة أي الجغرافيا البشرية تهتم بدراسة العلاقة بين البيئة الطبيعية وبين المجتمع دون التقيد بالنمط السياسي القائم فيه، في الوقت اذي تنصرف فيه الجغرافيا السياسية لدراسة المجتمع في ضوء نظامه السياسي وواقعه داخل الوحدة الدولية , كما تهتم بدراسة الاقليم الجغرافي كوحدة سياسية أو اقليم سياسي بشكلٍ عام أو الدولة بشكلٍ خاص , وأيضاً تدرس المنظمات والتكتلات الدولية والإقليمية من جانب فعالياتها والتزاماتها وتأثيرها في نطاقها الجغرافي .

 

تطور الجغرافيا السياسية

– الجغرافيا السياسية في اطارها العام:

تُعتبر الجغرافيا السياسية علما أو فرعاً حديثاً نسبياً من فروع الجغرافيا وقد بدأ الاهتمام بها بداية من القرن التاسع عشر نتيجة الاكتشافات الجغرافية وظهور الوحدات السياسية الجديدة والظواهر المختلفة كالاستعمار والتحالفات وبروز الأفكار القومية . وقد سبق ذلك اهتمام المفكرين القدامى بالجغرافيا من خلال الاشارة على تأثيراتها السياسية أو العكس كأرسطو في كتابه السياسة, وأفلاطون في كتابه الجمهورية و استرابو ((Strabo في كتابه الجغرافيا  .

– الجغرافيا السياسية في شكلها الحالي:

خلال القرن التاسع عشر برز في مجال الجغرافيا السياسية الجغرافي الألماني (كارل ريتر karl ritter ) الذي كان أستاذاً للجغرافيا بجامعة برلين والذي اهتم بأثر البيئة على الثقافات والحضارات مستنداً لفرضيات داروين حول ولادة النبات والحيوان وتطوره ونضوجه ففنائه وقياسها على الحضارات.

– الجغرافيا السياسية عند فريدريك راتزل:

يعتبر الألماني فريدريك راتزل الأب المؤسس للجغرافيا السياسية الحديثة وتأثر بشكلٍ كبير كباقي الجغرافيين الألمان، بالحتمية البيئية لداروين, حيث ظهرت بداية كتاباته عام 1897 في كتاب الجغرافيا السياسية الذي أبرز فيه العلاقة بين الدولة والأرض وأثر والأهم من هذا هو نقاشه حول امتداد نفوذ الدول الثقافي والسياسي والاقتصادي والتي لخصها في مقاله: (القوانين السبع للنمو الأرضي للدولة) .

– هالفورد ماكندر ونظرية قلب الأرض:

جاءت نظرية قلب الأرض في مقالة نشرت عام 1904ثم طورها ماكندر إلى كتاب صدر عام 1919 لتتفق مع تطورات السياسة العالمية تُعبر هذه النظرية عن اتجاه الجغرافيا السياسية نحو دراسة الكتل الاقليمية كوحدة سياسية، حيث الصراع العالمي لهذه الوحدات بغية السيطرة على العالم سيكون من نصيب القوى التي تتركز داخل القارات اليابسة وليس للدول البحرية الاخرى.

{ لقد اثبتت الحربين العالميتين الاولى والثانية نوعاً من المصداقية لنظرية ماكندر وما ترتب عليها من سيطرة الاتحاد السوفييتي على قلب العالم وشرق اوروبا واصبح قوى كبرى لا تضاهى }

تعريف الجغرافيا السياسية

إن الجغرافيا السياسية كعلمٍ مستقلٍ ومنهجٍ متميزٍ لم يظهر جليا حتى نهايات القرن التاسع عشر, وأن تعريفها بناءً على حداثتها ارتبط بشكل أو بآخر بعدة علوم أخرى كالتاريخ والسياسة والعلاقات الدولية . وقد اختلف تعريفها من   فان فالكمبرج الذي يقول بأنها مجموعة الوحدات السياسية التي يتم دراسة كل منها على حدة نظرا لتميز ظروفها عن بعضها، خاصة من جانب الانتاج والاستهلاك , أما نورمن بوندر فيعرفها من خلال كتابه(الجغرافيا السياسية) على أنها العلم الذي يهتم بالدولة أو الاقليم المنظم تنظيما سياسيا من حيث الوظيفة والموارد والمساحة وعوامل وأسباب تكوينها.

وأخيراً هارتس هورن فيقول عنها في كتابه (الجغرافيا السياسية في العالم الحديث): هي دراسة العلاقة بين الأرض في جانب الموقع والمساحة والموارد وبين الدولة في جانب السكان من حيث القدرات والدوافع الاجتماعية.

 

العلاقة بين الجغرافيا السياسية والجيوبوليتيك

ظهر اصطلاح جيوبوليتيك المكون من كلمتين هماgio  وتعني أرض، و   politich التي تعني الأرض ممثلة في سياستها، أي أن هذا الاصطلاح يُعنى بالجمع بين الجغرافيا والسياسة، وبعبارة أخرى الدراسة الجغرافيا للدولة وسياستها الخارجية , وعليه فمن الصعب الفصل بين الجغرافيا السياسية والجيوبوليتيك، حيث أن اللفظين يؤديان الى نفس المعنى، إلا أن الاختلاف يكمن في المدارس التي ينتميان لها والمواضيع التي يدرسانها .

 

الدولة من وجهة نظر الجغرافيا السياسية

تعتبر الدولة من المواضيع الاساسية في علم الجغرافيا السياسية ، فهي الركيزة والوحدة الاساسية في النمط السياسي العالمي، هذا وتختلف الدول قيما بينها من حيث الموقع والمظاهر الطبيعية والمساحات المسكونة والعلاقة مع الوحدات السياسية الأخرى , بينما تتشابه بنظام الحكم والشعب والبناء الاقتصادي .

1- ما هية الدولـــــــــــــــــة:

هي نظام إنساني اقتصادي اجتماعي معقد، ذو كيان يفرض سيادة سلطة سياسية على ارض معينة، ولا تعني مجرد مساحة من الارض وعدد من السكان عليها، بل هي حقيقة اجتماعية واقتصادية مستقلة .

2-الأسس الجغرافية للدولة:

أولا : المقومات الطبيعية :

تشتمل الاسس الطبيعية للدولة على عدة عناصر هامة في مقدمتها الموقع والحجم والشكل ، كذلك المناخ والتضاريس والتربة، والجوانب الحيوية كمصادر المياه والموارد المعدنية والثروة النباتية, وإن الاستغلال الامثل لهذه المصادر هو الذي يمنح الدول سمتها الرئيسية .

ثانياً: الموقع:

يعتبر الموقع من اهم العناصر الطبيعية  في مكونات الدولة , وهو الذي يمنحها الأهمية السياسية والإقليمية .

 ثالثاً: حجم الدولة:

إن مساحة الدول  تلعب دورا هاماً واستراتيجياً  في قوة الدولة، فالدولة ذات المساحة الكبيرة ترتبط بميزات عسكرية هامة تجعل من احتلالها وغزوها أمراً صعبا للغاية (الاتحاد السوفييتي سابقاً) , وبالمقابل فإن اتساع المساحة يمكن أن يشكل عائقاً أمام القيادة السياسية التي تُعنى بالإشراف المباشر على سيادة كامل الدولة (كالصين مثلاً) .

3- الأسس الديموغرافية:

أولاً: المقومات البشرية:

منذ العصور القديمة عاش الإنسان ضمن عشائر تنتظم فيها روابط المجتمع المحلي، وفي بعض الاحيان يمسي المؤسس لهذه المجتمعات شبيها بالإله ذو القوى والطاقات التي تسخر حسب رأي الجماعة من أجل إسعاد النسل في حدود الاطار التنظيمي المتعارف عليه.

ثانياً: عدد السكان:

كان الاعتقاد السائد أن العدد الصغير في مجتمع معين يؤدي الى تنظيم سياسي بسيط يعتمد على النسب والقرابة كالعشيرة والقبيلة، بينما يؤدي التكوين الكبير لمجتمع متجانس سلالياً أو لغوياً أو دينياً الى تكوين الدولة حينما يصل هذا المجتمع الى درجة معينة من المدنية ,بينما يشير الواقع أن وجود الدولة لا يعتمد على مثل هذه العوامل (كالنرويج مثلاً) .

ثالثاً: السلالة:

قد تشجع الوحدة الاثنية على ولادة دولة (مثل المجر أو بلغاريا) , أو يقوم بذلك تعدد الشعوب (مثل الولايات المتحدة والبرازيل) ، ومن ناحية اخرى يجب أن لا نغفل أن الدولة حينما تنشأ وتنمو تحاول أن توجد لنفسها طابعا سلالياً أو اثنياً بصورة مصطنعة (مثل ألمانيا التي ادعت لنفسها السلالة الآرية) .

 

حياة الدول وتطورها

تنقسم الدول في مسارها التاريخي وتطورها عند (صاموئيل هنتنغتون) في كتابه: النظام السياسي في مجتمعات متغيرة إلى أربع مراحل أساسية وهي:

  1. مرحلة الطفولة : التي يمكن أن تكون بداية النشأة للدولة أو طور إعادة تكوين تمر به دولة قديمة النشأة نتيجة وقوع أحداث جديدة فيها .
  2. مرحلة الشباب : تشعر الدولة فيها بعدم الرضا أو الاقتناع بالواقع والحدود والموارد القائمة، وعليه تسعى لفتح أسواق جديدة للحصول على موارد جديدة وتوسيع نفوذها السياسي والاقتصادي خارج حدودها السياسية.
  3. مرحلة النضج : عندما تتمكن الدولة في مرحلة الشباب من تحقيق اهدافها في التقدم والتنمية فإنها تصل لمرحلة النضج وأي خلل يعيق ذلك يجعلها تنتقل إلى مرحلة الشيخوخة بدل النضج .
  4. مرحلة الشيخوخة : تصل إليها الدولة عندما تضعف وتتفكك وتصبح غير قادرة على السيطرة على كافة مناطقها الواسعة والاحتفاظ بمناطق نفوذها .

مناهج البحث في الجغرافيا السياسية

تعتمد الجغرافيا السياسية عدة نماذج في الدراسة والتحليل، حيث أن معظم هذه المناهج يتمحور حول اتجاهين، يبدأ أولها بدراسة مفهوم وميدان وأهادف طرق البحث في الجغرافيا السياسية، اي دراسة الاسس العامة في الجغرافيا السياسية، ويعتمد الثاني دراسة الوحدات السياسية ونقصد هنا الدراسة الاقليمية من منظور سياسي، ومن ابرز هذه المناهج :

 

  1. المنهج التحليلي : يتناول هذا المنهج دراسة الوحدات السياسية دراسة تحليلية توضح العلاقات التي تربط بين هذه الوحدات بغية تقدير قوة الدولة ووضع تصور مستقبلي لها , وكان (كوهيم (cohemمساهماً في تطويره.
  2. المنهج التاريخي : يدرس الجانب التاريخي للدولة من خلال التركيز على ماضيها بغية تحليل احداثها الحاضرة وذلك لتسليط الضوء على تمددها في الخارطة السياسية , وقد اتبع كثير من العلماء الألمان هذا المنهج متأثرين بأفكار (راتزل) عن الدولة ككائن حي.
  3. المنهج الإقليمي : يتناول التاريخ السياسي للدولة وتقسيماتها الادارية وحدودها السياسية وعلاقاتها مع باقي الدول وهو بذلك يشبه الجغرافيا الاقليمية.

النظريات الجيوبوليتيكية الحديثة

زبيجيو بريجنسكي:

يرى بريجينسكي في نظريته أن الصراع الدولي ما بعد الحرب العالمي الثانية قد تمركز في منطقة أوراسيا عموماً وأسيا الوسطى خصوصاً ، وقد تربع هذا على أولويات الدراسات الجيوبوليتيكية للولايات المتحدة الامريكية , كون أهمية منطقة أسيا الوسطى تنبع من كونها جسراً أرضيا بين الشرق والغرب (أي الكتلتين الآسيوية والأوربية)، ما يجعلها ذو أهمية جيوبولتيكية أساسية في الصراع الدولي .

 

صامويل هنتجتون:

تعتبر نظرية صدام الحضارات التي نشرها هنتغتون 1993 خطوط عريضة واضحة للجيوستراتيجية الأمريكية في عالم ما بعد الحرب الباردة الذي أوضح فيها أن الصراع في العالم لن يكون بين الطبقات الاجتماعية أو الاقتصادية، بل بين القوميات والاديان والحضارات، أي أن صراع ما بعد الحرب الباردة لن يكون عسكريا بل حضاريا بين الحضارات من جهة، وبين أركان الحضارة ذاتها من جهة أخرى

نظريات أخرى:

منها نظرية الفوضى الخلاقة التي تهدف إلى ضرب الاستقرار الأمني وتدمير البنى العسكرية والاقتصادية بإطلاق الصراع العرقي وتفعيل صراع العصبيات. وكذلك نظرية المركز والاطراف ذات البعد الاقتصادي التي قسمت العالم لدول المركز التي ضمت الغرب واليابان والدول الصناعية الكبرى والدول الاطراف التي مثلت الدول النامية، والدول البينية التي تقع ما بين المركزي والاطراف.

في الختام:

كأي علم فقد أمست الجغرافيا السياسية علماً مستقلاً لهُ أدواته الخاصة ومنهجياته المختلفة في التحليل والتنبؤ وهذا ما يكسبها أهمية كبيرة كعلم قابل للتطبيق على أرض الواقع , حيث أظهرت لنا وجوب عدم النظر للعالم كلوحة تزينها دول منفصلة عن بعضها البعض، بل كمنظومة مؤلفة من مجموعات كبيرة دائمة التطور ضمن اطار توازنٍ مؤقت وأن هذه المجموعات تقف واحدة في مواجهة الأخرى نتيجة تنوع الايديولوجيات والثقافات وأشكال الحكم واختلاف السياسيات، أو واحدة إلى جانب الأخرى نتيجة تشابه ما سلف