أثر المتغيرات الدولية على منطقة الشرق الأوسط
في ظل المتغيّرات العالمية للفترة التالية للحرب الباردة، اتّسعت الحاجة للاهتمام بتناول العلاقات الدولية بالدراسة والتحليل، على ضوء إعادة ترتيب وتوزيع عناصر القوة، لما لها من تأثير على سلوك الفاعلين في النظام الدولي، حيث لم تعد العلاقات الدولية لفترة ما بعد الحرب الباردة تقيٌمُ انطلاقاً من معيار القوة العسكرية التي كانت مهيمنة آنذاك، بل أصبحت تقيٌمُ وفق معياريّ القوتين الاقتصادية والتكنولوجية، بعد تحوّل الصراع الدولي من صراع عسكري أيديولوجي إلى صراع اقتصادي حضاري، وهو ما يدل على إعادة توزيع أدوار القوى حسب درجات تأثيرها على الواقع الدولي الجديد، لنلحظ تراجعاً نسبياً للقوة العسكرية وتعاظم دور القوة الاقتصادية مع تزايد دور العامل التكنولوجي.
وبالنظر إلى طبيعة القوى الفاعلة في النظام الدولي الجديد، نرى معظم هذه القوى هي قوى اقتصادية وتكنولوجية كما هو الحال بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية واليابان والإتحاد الأوروبي، أما القوى العسكرية فهي حكر فقط على الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا الاتحادية وبدرجة أقل الصين الشعبية، وهو ما يعني عدم إقصاء لأي عنصر من عناصر القوة وإن لم تكن مجتمعة كلها في قوة فاعلة واحدة.
وفي ظل زيادة ظاهرة الاعتماد المتبادل أصبح احتمال استخدام القوة العسكرية محدودا للغاية وفي نطاق ضيق من القضايا، لذلك لم تعد القوة في عالم ما بعد الحرب الباردة عسكريةً بالدرجة الأولى إنما قوة فسيفسائية تتشكل من العناصر الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية معاً، خاصةً مع التطورات التكنولوجية التي تستدعي تداخل كافة عناصر القوة وتشابكها أحيانا وتلازمها أحيانا أخرى.
-
بروز المشاريع الشرق أوسطية:
ولد الشرق الأوسط المعاصر من بقايا وتناقضات الاتفاقات التي انطوت عليها فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى، كما تميّز خلال المرحلة التي تلت انهيار الإمبراطورية العثمانية بقضايا وظروف خاصة، وبعد عجز فرنسا وبريطانيا عن فرض نفوذهما الاستعماري في الشرق الأوسط أُفسح المجال أمام الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي لبسط نفوذهما.
ومع اكتشاف النفط وإثبات أهميته الاستراتيجية الحاسمة أبدت قِوى الغرب اهتماماً متزايداً بمنطقة الشرق الأوسط عموماً وبالمناطق النفطية فيه خصوصاً.
يمكن اعتبار نهاية حرب الخليج الثانية وفتح باب المفاوضات بين بعض الدول العربية وإسرائيل منذ 1991 الخطوة الأكثر تقدما لبلورة النظام الشرق أوسطي، حيث أدّت تلك الأحداث إلى بداية مسار السلام في المنطقة، بتطبيع سياسي واقتصادي بين بعض الدول العربية واسرائيل، ذلك ما كرّسته عدّة اتفاقيات وخطوات سياسية أهمها:
- اتفاق أوسلو لإعلان المبادئ بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل في 13 سبتمبر 1993.
- اتفاق واشنطن بين الأردن وإسرائيل في 25 يوليو 1994.
- تبادل مكاتب الاتصال بين المغرب وإسرائيل.
- إقامة مكاتب لرعاية المصالح بين تونس وإسرائيل عن طريق بلجيكا وذلك خلال شهري سبتمبر وأكتوبر 1994.
- بالإضافة إلى احتضان خمسة عواصم عربية هي: الرباط، تونس، القاهرة، الدوحة، مسقط لاجتماعات اللجان متعددة الأطراف والتي تفرعت عن مؤتمر مدريد.[1]
إذا كان طرح النظام الشرق أوسطي قد جاء في أعقاب حرب الخليج الثانية عام 1991، فإنّ التحضير له كان قد بدأ قبل ذلك بعدة سنوات وبالضبط بعد إبرام معاهدة 1979 بين مصر والكيان الصهيوني برعاية أمريكية، وقد تعاونت مراكز البحث الأمريكية في هذا التحضير ومن أبرزها معهد الشرق الأوسط التابع لجامعة هارفارد الذي كان له الدور الأكبر في وضع إطار لهذا المشروع ورسم خطوطه.
مصادر تهديد الأمن القومي العربي وتغير الإدراك نحوها:
يرتبط أمن الأنظمة السياسية العربية بالنظام الإقليمي العربي، ويعتبر انعكاسا لهذا الأخير من حيث تماسكه أو تفككه، وكان لتوسيع حلف الأطلسي وتعزيز نفوذ الولايات المتحدة الأمريكية في صياغة التفاعلات الدولية أثر في تصاعد وتيرة الاختراق الخارجي للأمن العربي، وكل هذا أدى إلى تراجع في إدراك النخب العربية الحاكمة على غرار تغيّر النظرة إلى إسرائيل التي لم تعد مصدر تهديد رئيسي لأمن الخليج العربي.
إضافةً إلى أنّ أولويات القوى الكبرى انعكست على البيئة العربية، فلم يعد الحديث حول الأمن العربي بل حول أمن الخليج أو أمن الشرق الأوسط أو أمن المتوسط، ما أدى إلى نظرة اختزالية في مفهوم الأمن في العالم العربي.
انعكاس تنامي التهديدات الأمنية الغير تقليدية:
التغيّر الذي طرأ على مفهوم الأمن التقليدي بانتقاله إلى مفهوم الأمن المتعدد صاحبه كذلك التغيّر في طبيعة التهديدات الأمنية في الفترة التالية للحرب البادرة، لتتصاعد أهمية مصادر التهديدات غير التقليدية أو الغير تقليدية، ومن سماتها الرئيسية أنّ مصدرها ليس الدول وأنها ليست عسكرية وأنها عابرة للحدود وأنّ التعامل معها يتطلّب في معظم الأحيان تعاوناً متعدد الأطراف، مثل التغيرات المناخية والكوارث الطبيعية والأمراض الوبائية والتحركات السكانية والإجرام المنظّم وأمن المعلومات وصراعات الموارد وغيرها.
أشكال وأنماط التهديدات الأمنية الغير تقليدية:
تتعدّد أشكال وأنماط التهديدات الغير تقليدية وتتعدّد مصادرها لدرجة يصعب التحكم فيها ومعالجتها بفعالية، ولأنها تمس كافة الدول والشعوب فقد نتج ما يسمى بـعولمة المخاطر والتهديدات، حيث أصبحت التهديدات مثل الإرهاب والجريمة المنظمة والهجرة غير الشرعية والمخدرات والمخاطر البيئية العالمية نظراً لديناميكيتها العابرة للحدود الوطنية، وعموماً بالإمكان تصنيف التهديدات الأمنية الغير تقليدية على النحو التالي:
أولاً: التهديدات السياسية
تشمل هذه التهديدات كل ما يرتبط بأمن الدولة وأمن المجتمع حيث أنَّ وجود الدولة وتنظيمها السياسي والأيديولوجي والمؤسسات السياسية تعد أهداف طبيعية لمختلف التهديدات والمخاطر والتحديات، وتضم التهديدات السياسية انتشار النزاعات المسلحة سواء بين الدول أو داخل الدول وانتشار أسلحة الدمار الشامل ونمو العنف والإرهاب والجريمة المنظمة.[2]
ويعد التهديد الإرهابي من أخطر هذه التهديدات لأنه غير متوقّع وغير عقلاني ويهدف إلى زعزعة الاستقرار السياسي للدول، كما يُعتَبَر انتشار أسلحة الدمار الشامل من أهم التهديدات والتحديات مع خطر قيام حرب نووية أو وصول هذا السلاح إلى الجماعات الإرهابية واستخدامه بقرارات غير عقلانية، وتتخذ الجريمة المنظمة عدّة صور خاصةً تجارة المخدرات والسلاح وتبييض الأموال وتجارة الرقيق والتهريب وهي ظاهرة مركبة ومعقدة.
كما تشكّل التناقضات السياسية الداخلية مصدر تهديد أمني خاصةً في حالة وجود اختراق أمني من قبل قوى خارجية معادية وفي هذه الحالة يصبح مكوّن الأمن الوطني على المحك ويواجه تهديدات جدية وخطيرة.[3]
ثانيا: التهديدات الاقتصادية والاجتماعية
تعد من أهم التهديدات خاصةً في ظل عالم قائم على أسس الاقتصاد والتكنولوجيا، وتتمثّل أهم هذه التهديدات في: ضعف التنمية والنمو، انتشار الفقر والبطالة، تفشي الأمراض والأوبئة، الجوع والأمية والتدهور الصحي للإنسان، وكذلك النمو الديموغرافي السريع خاصة في الدول المتخلّفة، كما أضحت الهجرة غير الشرعية تشكّل تحدياً أمنياً للمجتمعات وهاجساً لدى الكثير من الدول وتؤثر على العلاقات بين الدول الدافعة والدول الجاذبة.
ثالثا: التهديدات البيئية
تُعتَبر مشاكل التصحّر والجفاف وندرة المياه والكوارث الطبيعية والتلوث البيئي خاصةً المخلفات الصناعية الثقيلة من أهم التهديدات البيئية التي أصبح يواجهها العالم، حيث أصبحت المشكلات البيئية إحدى القضايا الرئيسية التي تحكم سياسات القوى الدولية سواء من حيث السيطرة على الموارد أو ضمان محيط بيئي سليم للحياة البشرية، وهو ما يبين أهمية الارتباط بين البيئة والأمن، فالضغط البشري على البيئـة يشكّل أحد القضـايا الأساسية التي يتبلور في إطارها أمن الدولة1. كما يضاف إلى ما سبق مشاكل بيئية أخرى مثل ظاهرة الاحتباس الحراري وتآكل طبقة الأوزون وظاهرة الأمطار الحمضية وتلوّث التربة والهواء والمياه العذبة والجوفية ومياه البحار والمحيطات، بالإضافة إلى الاستهلاك المفرط وغير الرشيد لمصادر الطاقة كالنفط والغاز الطبيعي، وتكمن خطورة التهديدات البيئية بارتباطها باستمرار الحياة البشرية ككل وهي تهديدات عالمية مشتركة.
-
تداعيات التهديدات على أمن الأنظمة السياسية العربية:
يعتبر العالم العربي من أكثر المناطق في العالم التي تأثرت بويلات التهديدات الغير تقليدية، ونظراً لتعدد أشكال وأنماط التهديدات الغير تقليدية فسوف نركز في هذا المقام على ثلاثة أشكال أساسية بسبب استفحالها وانتشارها الواسع في العالم العربي من جهة واعتبارها من أخطر التهديدات على أمن الأنظمة السياسية العربية من جهة ثانية وهي: ظاهرة الإرهاب، ظاهرة الجريمة المنظمة، ظاهرة الهجرة غير الشرعية.
أولا: الإرهاب:
على الرغم من غياب اتفاق حول إعطاء تعريف موحد لظاهرة الإرهاب غير أن وجود العمليات الإرهابية أصبح واقعاً، والتهديدات الإرهابية لم تنته رغم مساعي دحض وحسر عمليات العنف المسلّح الممنهج من طرف الجماعات الإرهابية، ومن تداعيات الظاهرة على أمن الأنظمة السياسية العربية أن راح ضحيتها عشرات الآلاف من القتلى والجرحى وملايين الدولارات من الخسائر في البنى التحتية حسب تقدير العديد من الإحصائيات.
وهنا لا يمكن إغفال التجربة السورية ومعاناتها مع ظاهرة الإرهاب لأكثر من ثمان سنوات وحتى يومنا هذا.
ثانيا: الجريمة المنظّمة:
تتحقق أهداف الجريمة المنظمة باستخدام وسائل العنف والتهديد والابتزاز والرشوة لإخضاع وإفساد المسؤولين في أجهزة إدارة الحكم أو أجهزة إدارة العدالة، وتُعتَبر الجريمة المنظمّة من أكثر الجرائم الغير تقليدية التي تهدّد أمن الأنظمة السياسية العربية لأنها تمس الاقتصادات الوطنية والموارد المادية للدولة مباشرة، وتستعمل جماعاتها مختلف الوسائل لتحقيق أهدافها وغاياتها كالتخويف والاختطاف والترهيب والابتزاز بالتعاون مع جماعات أخرى كالإرهاب.[4]
هذا ويعاني العالم العربي من التهديدات التي تترتّب عن نشاط جماعات الجريمة المنظمة باعتبار أنّ نشاط هذه الجماعات له امتدادات عبر الحدود خاصةً مع دول الساحل الإفريقي ودول الجوار، ومن أهم أنشطة الجماعات الإجرامية: تهريب المخدرات والأسلحة وتبييض الأموال وتمويل الإرهاب.
والى جانب تهديد المخدرات للاقتصادات العربية الوطنية فلها تأثيرات اجتماعية وأمنية خطيرة، لمساهمتها في الكسب غير المشروع الذي يمس الجوانب الاجتماعية والاستقرار الاجتماعي للمجتمع والعمل على زيادة حدّة الفقر والبطالة وانتشار الأمراض كالإيدز ونشر الجريمة والتطرّف والعنف داخل المجتمعات العربية.
في الختام:
لقد أفرزت مرحلة ما بعد الحرب الباردة جملةً من التداعيات والتغييرات التي ترتب عنها معطيات ومفرزات جديدة، أدّت إلى تنميط طبيعة التفاعلات العالمية وتحديد معالمها وضبط فضاء منظومتها القيمية وتشكيل مناخ جديد يستدعي مسايرة ومجاراة الوضع القائم، كما أنّ جيوبوليتيكية العالم العربي جعلت منه همزة وصل بين عدّة عوالم: عربي إسلامي، إفريقي، أوروبي ومتوسطي، فإذا كانت المنطقة العربية بإمكانها أن تكون نقطة التقاءٍ حضارية فهي أيضاً بإمكانها أن تشكّل خط مواجهة أو تصادم.
الأكاديمية السورية الدولية
SIA 2019
[1] منصف السليمي، إعلان الدار البيضاء: تسوية بين مطالب السياسي ومصالح الاقتصادي، مجلة المستقبل العربي، العدد 19 ، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، مارس 1995 ، ص 20.
[2] [2] عامر مصباح، نظريات التحليل الاستراتيجي للأمن والعلاقات الدولية، القاهرة: دار الكتاب العربي، 2011, ص36.
[3] المرجع السابق، ص36.
[4] محمد شريف بسيوني، الجريمة المنظمة عبر الوطنية، القاهرة: دار الشروق، 2004، ص 11